المهري الأصيل

السبت، مارس 31، 2012

أحكام وأنواع التبرك {ما بين المشروع و الممنوع}....

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
إن مما لا شك فيه أن نبينا محمد صلَ الله عليه وسلم مبارك في ذاته وآثاره، كما كان مباركا في أفعاله عليه الصلاة والسلام.
وهذا مما أكرم الله تعالى به أنبياءه ورسله جميعاً عليهم الصلاة والسلام.

أولا: لم يُنكر أحد من علماء المسلمين قاطبة أو يشك في أنَّ نبينا صل الله عليه وآله وسلم
 هو أفضل الأنبياء وسيد البشر وخاتم المرسلين، كما أنهم يؤمنون ببركته صل الله عليه وآله وسلم
وأنَّ بركته نوعان:
النوع الأول: بركة معنويَّة، وهي نبوته ورسالته وشريعته، وما اشتملت عليه من الحق المحض، والرحمة العامة،
والسعادة التامة، وأنها السبيل الوحيد إلى الفلاح والنجاح والفوز بمرضاة الله.
النوع الثاني: بركة حسيَّة، وهي بركة ذاتِه، وبركة آثاره الحسيَّة المنفصلة عنه. 
فمن ذلك: تكثير الطعام، ونبع الماء بين أصابعه، وإبراء المريض، وغير ذلك مما ثبت.
وأما بركة ذاته وآثاره فلم يقع خلافٌ في ثبوتها، وجواز التبرك بها، ولا شك أنه صل الله عليه وآله وسلم مباركٌ في ذاته
وأفعاله وأقواله وآثاره، وقد كان أصحابه رضوان الله عليهم يتبركون بآثاره أثناء حياته وبعد مماته، 
وقد وقع بعض ذلك تحت سمع وبصر النبي صل الله عليه وآله وسلم، الذي أقرهم على فعلهم.
فالصحابة رضوان الله عليهم، كما ثبت في الصحيح، قد تبركوا بمسح يده الشريفة الطاهرة أو غمسها
 في الماء رجاء بركتها، وتبركوا بشعره، وريقه، وعرقه، وما فَضُلَ من ماء وضوئه، أو بما لبسه من الثياب، 
أو ما فَضُلَ من طعامه وشرابه، وكان ذلك وقت حياته صل الله عليه وآله وسلم.
أما بعد مماته، فقد ثبت في الصحيح، أنَّ الصحابة رضي الله عنهم تبركوا ببقايا الآثار الحسيَّة المنفصلة من
النبي صل الله عليه وآله وسلم، كخاتمه، وبرده، وسيفه، وعصاه، وشعره، وثيابه، وآنيته، ونعله، وما شابهها.
ولذا فإن التبرك بآثار النبي، صل الله عليه وآله وسلم مشروعٌ، فعله الصحابة، ومن بعدهم التابعون لهم بإحسان، 
لأن بركة النبي، صل الله عليه وآله وسلم، باقيةٌ في آثاره، وعلمنا مشروعية ذلك بما صح من الروايات التي نقلت
 لنا فعل الصحابة وإقرار النبي صل الله عليه وآله وسلم لما فعلوا.
وهذه الأمور ليست كنوزًا مجهولةً مدفونة في أمّهات الكتب، بل هي معروفة ومنشورة ومشتهرة عند طلاب العلم، يَدرُسونها ويُدرِّسونها، 
لكنهم يفهمون المقصود منها فهمًا صحيحًا.

ثانيا: إذا ثبت أن التبرك بآثار النبي صل الله عليه وآله وسلم مشروع؛ فلا بد من التنبه للنـتيجة العملية الواقعية للمسألة، 
وهي: هل بقي للمسألة وجود في الواقع؟ بمعنى: هل يثبت الآن صحة أي أثر من الآثار التي يُقال إنها من الآثار النبوية؟ 
ذلك لأن المسألة شرعية، فلا بد من التثبت فيما يُقال إنه من آثار النبي صل الله عليه وآله وسلم، فنحن أمة إسناد وتثبت، 
وكما جاء الوعيد في نسبة القول الذي لم يقله الرسول صل الله عليه وآله وسلم إليه؛ فكذا الأمر في نسبة فعلٍ أو أثرٍ له 
وهو ليس كذلك، وكما يُعرفُ ثبوت الحديث الشريف بأدلة وضوابط حدَّها علماء الحديث الأجلاء، فكذا لا بد من ثبوت 
ما يُزعم أنه من آثار النبي صل الله عليه وآله وسلم بأدلة وبراهين، و إلا جاز أن يَنسِبَ كلُّ أحدٍ إلى النبي صل الله عليه وآله وسلم 
ما يشاء من الآثار والأغراض للاتجار، أو نحوه من الأسباب. 
فالكذبُ على النبي صل الله عليه وآله وسلم جريمة شنيعة، وموبقة عظيمة، وكما كُذِبَ على النبي صل الله عليه وآله وسلم في 
قوله وفعله وفي الانتساب إلى نسبه الشريف: كذلك كُذِبَ عليه بادعاء آثارٍ له، وهي ليست كذلك في الحقيقة.
فالذي عليه العلماء المحققون سواءً المحدّثين المتثبتين أو حتى الآثاريين أنه لا يثبت شيء من ذلك اليوم!.
وقد كان الذين كانوا يملكون شيئًا من آثار النبي صل الله عليه وآله وسلم، ضنينين بما عندهم، فلم يكونوا يُؤثرون به غيرهم، ومنهم 
من كان حريصًا على أن تُدفن معه تلك الآثار، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أنَّ الرجل الذي سأل النبي صل الله عليه وآله وسلم بردته 
إنما سألها ليجعلها كفًا له إذا مات، فذهبت بدفنه.
وكما ثبت في الصحيحين أن النبي صل الله عليه وآله وسلم أعطى مُغَسِّلة ابنـته زينب رضي الله عنها إزاره كي تضعه على جسد ابنـته في قبرها.
وقد رُويَ أنَّ بعض الصحابة والتابعين الذين كانوا يمتلكون شيئًا من آثار النبي صل الله عليه وآله وسلم أنهم جعلوها معهم في قُبورهم تبركًا بها، كما رُوي عن معاوية رضي الله عنه، 
وكما رُوي عن الإمام أحمد رحمه الله.
وبعضُ آثاره، صل الله عليه وآله وسلم، قد ثبت أنها فُقِدت، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه
 أن خاتم النبي صل الله عليه وآله وسلم وقع من عثمان رضي الله عنه في بئرٍ في المدينة يُدعى (أريس).
وقال المحدث الألباني رحمه الله تعالى وهو المعروف بتبحره في علم الحديث: 
(ونحن نعلم أن آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثياب، أو شعر، أو فضلات: قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين).
ولذلك ما ثبت في الصحيحين، عن طارق بن عبدالله، أنه قال: (انطلقتُ حاجًا، فمررتُ بقوم يصلون. قلتُ: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع 
رسول الله صل الله عليه وآله وسلم بيعة الرضوان.فأتيتُ سعيد بن المسيب فأخبرته. فقال سعيد: حدثني أبي، أنه كان فيمن بايع رسول الله صل الله عليه وآله وسلم 
تحت الشجر، قال: فلما خرجنا من العام المقبل أنسيناها فلم نقدر عليها. فقال سعيد: إن أصحاب محمد صل الله عليه وآله وسلم لم يعلموها، وعلمتموها أنتم! فأنتم أعلم؟!).
وكما ثبت في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر أنه قال: (رجعنا العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها! كانت رحمة من الله).
فهذا يدل دلالة واضحة جدًا أن هذا الموضع مع أهميته العالية، ومناسبته الشريفة جدًا، ومع كونه في طريق حجهم وعمرتهم، ومع كونهم شهدوا الموضع وهم أعدادٌ غفيرة، 
إلا أن جمهور الصحابة لم يعرف الموضع، واختلط عليهم، 
فإذا كان ذلك في مثل هذا الموضع الشهير ولهؤلاء: فكيف بغيره من المواضع ولغيرهم؟
قال الإمام النووي الشافعي رحمه الله: (قال العلماء: سبب خفائها؛ أن لا يُفتن الناس بها، لما جرى تحتها من الخير ونزول الرضوان والسكينة).
ومع ذلك، فإنه لما نسبَ بعضهم مكاناً للشجرة، وأخذوا يأتونها للتبرك، 
وبلغ ذلك الفاروق رضي الله عنه: أمر بقطع تلك الشجرة، قطعًا وحسمًا لأي موضعٍ أو مادة تُفضي إلى الشرك.
ثالثا: أما ما احتج به من فعل عبدالله بن عمر رضي الله عنه الذي كان يتـتبع مواضع وأماكن النبي صل الله عليه وآله وسلم 
فلا يصح الاحتجاج به، لأنه كان يفعل ذلك متابعة للنبي صل الله عليه وآله وسلم وليس تبركًا بتلك الأماكن التي لم يقصدها 
النبي صل الله عليه وآله وسلم لذاتها أو لبركة فيها، بل من غير قصد. 
وقد اشتهر عبدالله بن عمر بحرصه على متابعة النبي صل الله عليه وآله وسلم في كل شيء، فلم يكن يفعلها طلبًا للبركة في تلك الأماكن، 
بل كان يفعل ذلك لشدة حرصه على متابعة الرسول صل الله عليه وآله وسلم .
والذي يدل عليه ما رواه المعرور بن سويد، بإسناد صحيح على شرط مسلم، حيث قال:
(خرجنا مع عمر بن الخطاب، فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدره الناس يصلون فيه، 
فقال عمر: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا، حتى أحدثوها بِيَعاً، فمن عرضت له فيه صلاةٌ فليصل، 
ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض).
وقد ثبت في الحديث الصحيح قول النبي صل الله عليه وآله وسلم:
(إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)، 
وفي آخر صحيح: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ).

اما من يستدل بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(إني أعرف أنك حجر لا تضر ولا تنفع لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك). 
فإنه استدلالٌ على عكس مقصود عمر، إذ أن الحجر مما مسته يد الأنبياء عليهم السلام، كما مسته يد نبينا الكريم صل الله عليه وآله وسلم،
 وكذلك قبّله بفمه الشريف، فلو كان ذلك يقتضي البركة، لكان تقبيل الحجر لسببين: 
البركة فيه، ولأجل الاقتداء بالنبي صل الله عليه وآله وسلم، والذي أثبته عمر إنما هو المتابعة، ونفى غيره، وهذا ما يُـبطل الإستدلال به، 
بل هو على عكس مراده، فعمر رضي الله عنه نفى أن يكون تقبيل الحجر من أجل البركة، وأثبت أن الأمر مجرد عبادة واتباع وانقياد لفعل النبي صل الله عليه وآله وسلم.
ويجب أن يسأل الإنسان نفسه: لماذا خصَّ عمر رضي الله عنه هذا الاستثناء بالحجر الأسود دون سواء؟ أليس في هذا الدليل أن المسألة مسألة عبادة ومتابعة، لا مسألة تبرك؟ 
لذلك اتفق العلماء على أنه لا يشرع استلام وتقبيل مقام إبراهيم عليه السلام، مع أنه موضوع قدمي الخليل عليه السلام، فكيف يُشرع التبرك بما لم يثبت ببرهان أنه من 
آثار النبي صل الله عليه وآله وسلم، أو بما لم يقصده النبي صل الله عليه وآله وسلم لذاته؟
قال الإمام النووي الشافعي رحمه الله: (لا يُقبّل مقام إبراهيم ولا يستلمه، فإنه بدعة).
وروى ابن جرير عن قتادة قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها.
يقولون هذا في المقام، مع أنه مقامُ نبيٍ من أنبياء الله تعالى عليه السلام. 
وقد قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: (ليس على وجه الأرض موضعٌ يُشرع تقبيله واستلامه، وتُحط الخطايا والأوزار فيه؛ غير الحجر الأسود، والركن اليماني).
وقال الإمام النووي رحمه الله: (يكره مسحه أي قبر النبي صل الله عليه وآله وسلم باليد وتقبيله، 
بل الأدب أن يـبتعد منه كما يـبتعد منه لو حضر في حياته صل الله عليه وآله وسلم، هذا هو الصواب، 
وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، وينبغي أن لا يُغتر بكثير من العوام في مخالفتهم ذلك.. 
ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة، فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع).
ولو جاز التقبيل والتمسح بكل ما مسَّه النبي، صل الله عليه وآله وسلم، لرأينا الصحابة رضي الله عنهم يتمسحون بجدران 
بيته والأماكن التي مسّها صل الله عليه وآله وسلم، وهذا ما لم يُنقل ألبتة لعدم حصوله. ثم التقبيل والتمسح إنما يُفعل كعبادةٍ، 
والعبادة لا بد لها من دليل، مثلها مثل الطواف والسعي.
ولو جاز جعل القبر محلاً للتقبيل والتمسح والتبرك والطواف: لكان عيدًا يقصده الناس للاجتماع والتعظيم، وطلب الحاجة، 
وهذا ما نهى عنه النبي صل الله عليه وآله وسلم.
قال النبي صل الله عليه وآله وسلم: (لا تجعلوا قبري عيدًا، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنـتم).
وفي الصحيحين أن النبي صل الله عليه وآله وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). 
قالت عائشة رضي الله عنها: (لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خَشي أو خُشي أن يُتخذ مسجدًا).
ولذلك لم يثبت أن أحدًا من الصحابة رضوان الله عليهم أو من التابعين لهم بإحسانٍ قد تبركوا بقبر النبي، صل الله عليه وآله وسلم، 
أو أمروا بذلك، بل كانوا ينهون عن ذلك.
رابعاً: وإذا كان الرسول صل الله عليه وسلم يجوز التبرك به على هذا الوجه، فهل يجوز هذا التبرك أيضاً بغيره من الصالحين، 
قياسا عليه صل الله عيه وسلم ؟.
* هل فعَل الصحابة ذلك التبرك مع غيره صل الله عليه وسلم ؟
إذا كان أصل دليل المسألة هو فعل الصحابة رضي الله عنهم معه صل الله عليه وسلم ، وإقراره صل الله عليه وسلم إياهم على ذلك، 
بل أمره صل الله عليه وسلم إياهم بذلك أحيانا كما سلف بيانه، 
فهل وُجد هذا التبرك عند الصحابة رضي الله عنهم مع غيره صل الله عليه وسلم ؟ 
وهل أمر الرسول صل الله عليه وسلم بذلك وأرشدهم إليه؟
الحق أنه لم يُؤثر عن النبي صل الله عليه وسلم أنه أمر بالتبرك بغيره من الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم، سواءً بذواتهم أو بآثارهم، 
أو أرشد إلى شيء من ذلك. 
وكذا فلم يُنقل حصول هذا النوع من التبرك من قبل الصحابة رضي الله عنهم بغيره صل الله عليه وسلم ، لا في حياته صل الله عليه وسلم 
ولا بعد مماته عليه الصلاة والسلام.
ولم يفعله الصحابة مع السابقين منهم إلى الإسلام وفضلائهم مثلا، ومنهم الخلفاء الراشدون ـ وهم أفضل الصحابة ـ وبقية العشرة المبشرين بالجنة، وغيرهم.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله بعد أن أشار إلى ثبوت تبرك الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صل الله عيه وسلم وبآثاره، 
مناقشا مسألة إمكان التبرك أيضاً بالصالحين وبآثارهم  وهو من المحققين القلائل الذين تطرقوا لهذه المسألة  قال رحمه الله تعالى في "الاعتصام" (2/8-9):
(الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صل الله عليه وسلم بعده 
في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه، وهو كان أفضل الأمة بعده، 
ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركا تبرك به على أحد تلك الوجوه 
أو نحوها - يقصد التبرك بالشعر والثياب وفضل الوضوء ونحو ذلك ـ، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها 
النبي صل الله عليه وسلم ، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء). 

* ما سبب ترك الصحابة رضي الله عنهم هذا التبرك مع بعضهم؟

إذ لم يثبت حصول ذلك النوع من التبرك من جهة الصحابة رضي الله عنهم مع بعضهم 
وهم أفضل القرون  كما قرره الشاطبي رحمه الله تعالى  وغيره(من هؤلاء ابن رجب رحمه الله.انظر كتابه"الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صل الله عليه وسلم  بُعثت بين يدي الساعة " (ص55).)، 
مع وجود مقتضيات هذا التبرك طلب الخير والشفاء والبركة وتوفر أسبابه، حيث الصحابة السابقين، والعشرة المبشرين رضي الله عنهم جميعاً.
كما أن الوفود التي كانت تبعث خارج المدينة لبعض المهمات ومنهم كبار الصحابة.لم يحصل التبرك بهم من قبل من بعثوا إليهم، مع بعد الرسول صل الله عليه وسلم عنهم في حياته.
إذا كان الأمر كذلك، ما سبب إجماعهم على ترك هذا التبرك إذاً؟ 
ولماذا لم يفعلوه مع بعضهم كما كانوا يفعلونه مع النبي صل الله عليه وسلم ؟
إن السبب الرئيس في ترك الصحابة رضي الله عنهم ذلك التبرك مع بعضهم  والله أعلم  هو اعتقاد اختصاص الرسول صل الله عليه وسلم به دون سواه ما عدا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
فقد اختص الله تبارك وتعالى الأنبياء والمرسلين بخصائص شريفة، لا توجد في غيرهم، 
ومنها وجود البركة في ذواتهم وآثارهم تشريفاً وتكريماً.
فذوات الأشخاص وصفاتهم غير متساوية، كما قال الله تعالى:}اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ{(الأنعام:124) والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أفضل الناس.
وقد اصطفى الله تعالى أنبيائه، واجتباهم من بين سائر البشر }وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ{ (القصص:68) وتميزهم عن غيرهم بخصائص كثيرة أمر مشهور لا ينكر.
فهذا ونحوه هو الذي جعلهم يختلفون عن أولياء الله تعالى الصالحين، في هذه المسألة وغيرها.
ومع عظم فضل هؤلاء ورفعة قدرهم، إلا أن مرتبتهم دون مرتبة الأنبياء والمرسلين، 
ولا يمكن أن يبلغوا درجتهم في الفضل والثواب وغير ذلك(خالف في هذا بعض الصوفية حيث يفضلون الأولياء على الأنبياء. راجع مثلا كتاب "شرح العقيدة الطحاوية" لعلي بن أبي العز (ص493-495)).
ولا شك أن النبي محمد صل الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء والمرسلين، وأعظمهم بركة.
قال الشاطبي رحمه الله في "الاعتصام" (2/9) بعدما أثبت إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك ذلك التبرك فيما بينهم  مع فعلهم له مع النبي صل الله عليه وسلم  قال رحمه الله تعالى مبينا أحد وجهي هذا التبرك:
(أن يعتقدوا فيه الاختصاص، وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله، للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير، لأنه عليه الصلاة والسلام كان نورا كله..
فمن التمس منه نوار وجده على أي جهة التمسه، بخلاف غيره من الأمة  وإن حصل له من نور الاقتداء به، والاهتداء بهديه ما شاء الله(يشير بهذا إلى البركة المعنوية للمؤمنين الصالحين الحاصلة بسبب اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم )
لا يبلغ مبلغه، على حال توازيه في مرتبته، ولا تقاربه، فصار هذا النوع مختصا به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بضع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسْم على الزوجات، وشبه ذلك).
ثم قال رحمه الله مبينا حكم ذلك التبرك بغيره صل الله عليه وسلم بناءً على هذا الوجه:(فعلى هذا لمأخذ: لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة).
وذكر في موضع آخر ما يرجح هذا الوجه (وهو اطباقهم ـ أي الصحابة ـ على الترك، 
إذ لو كان اعتقادهم التشريع(أي اعتقادهم أن هذا التبرك مشروع) لعلم به بعضهم بعده، أو عملوا به ولو في بعض الأحوال، 
إما وقوفا مع أصل المشروعية، وإما بناء على اعتقاد انتفاء العلة الموجبة للامتناع)("الاعتصام" (2/10)).
وقال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في معرض سياقه للنهي عن المبالغة في تعظيم الأولياء الصالحين، وتنزيلهم منزلة الأنبياء:(وكذلك التبرك بالآثار، فإنما كان يفعله الصحابة مع النبي صل الله عليه وسلم ، ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم... 
ولا يفعله التابعون مع الصحابة، مع علو قدرهم، فدل على أن هذا لا يفعل إلا مع النبي صلَ الله عليه وسلم ، مثل التبرك بوضوئه، وفضلاته، وشعره، وشرب فضل شرابه وطعامه)(من كتاب "الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صل الله عليه وسلم  بعثت بين يدي الساعة  لابن رجب (ص55)) اهـ.
خامساً: * حكم قياس الصالحين على النبي صلى الله عليه وسلم :
1 ـ مما سبق يتبين أن ما رآه بعض العلماء(من هؤلاء العلماء مثلاً: النووي رحمه الله.انظر "شرح النووي لصحيح مسلم" (7/3)، (14/44)، وابن حجر العسقلاني رحمه الله. انظر "فتح الباري" (3/144،130،129، 5/341)) من قياس الصالحين على الرسول صلى الله عليه وسلم في جواز التبرك بذواتهم وآثارهم غير صحيح.
أ ـ فإن إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك التبرك بالذوات والآثار مع غير النبي صلَ الله عليه وسلم مع وجود مقتضياته  يدل على أن هذا من خصائصه صل الله عليه وسلم حيث إن الله تعالى اختص نبيه بجعل البركة في ذاته وآثاره، تكريما وتشريفا لصفوة خلقه عليه الصلاة والسلام.
ولو كان ذلك الفعل مشروعا لسارعوا إلى فعله، ولم يُجمعوا على تركه، فهم أحرص الناس على فعل الخير.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعليقا على قول بعض شراح الحديث (لا بأس بالتبرك بآثار الصالحين) إذا مروا بذكر شعر النبي صل الله عليه وسلم ونحوه.
قال رحمه الله:(وهذا غلط ظاهر، لا يوافقهم عليه أهل العلم والحق، وذلك أنه ما ورد إلا في حق النبي صل الله عليه وسلم ، فأبوبكر وعمر وذو النورين عثمان وعلي، وبقية العشرة المبشرين بالجنة، وبقية البدريين، 
وأهل بيعة الرضوان، ما فعل السلف هذا مع واحد منهم، أفيكون هذا منهم نقصاً في تعظيم الخلفاء التعظيم اللائق بهم، أو أنهم لا يلتمسون ما ينفعهم. فاقتصارهم على النبي صل الله عليه وسلم يدل على أنه من خصائص النبي صل الله عليه وسلم ...)
(من"مجموع فتاوى ورسائل ابن إبراهيم" (1/103-104)، وانظر"فتح المجيد شرح كتاب التوحيد"(ص106)).
ب ـ ومما يؤكد اختصاص النبي صلَ الله عليه وسلم بهذا التبرك أن التابعين رحمهم الله تعالى قد ساروا على نهج الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب، فلم ينقل عنهم وقوع هذا التبرك مع الصحابة رضي الله عنهم  كما سبق  ولا فعله التابعون 
مع فضلائهم وقادتهم في العلم والدين(انظر كتاب "فتح المجيد" (ص106)، وكتاب "الدين الخالص" لمحمد صديق حسن (2/250))، وهكذا من بعدهم من أئمة الدين.
ج ـ ومما يؤكد الاختصاص أيضاً أنه لم يرد دليل شرعي على أن غير النبي صلَ الله عليه وسلم مثله في التبرك بأجزاء ذاته وآثاره، فهو خاص به كغيره من خصائصه( من كتاب "هذه مفاهيمنا" لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ (209)).
د ـ ولا شك أن اختصاص النبي صلَ الله عليه وسلم بهذا التبرك يدل على عدم جواز قياس الصالحين عليه صلَ الله عيه وسلم بجامع الفضل، وأن هذا الأمر قاصر عليه صلَ الله عليه وسلم لا يتعداه إلى غيره.
فقد أجمع العلماء على أنه إذا ثبت الخصوصية في حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تقتضي أن حكم غيره ليس كحكمه، إذ لو كان حكمه حكم غيره لما كان للاختصاص معنى(من كتاب "أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية" للدكتور محمد سليمان الأشقر (ص277)).
2 ـ لا يجوز قياس الصالحين وغيرهم على النبي صلى الله عليه وسلم في جواز هذا التبرك سدا للذريعة.
ولا ريب أن سد الذرائع قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة الإسلامية. فمن وجوه موانع القياس هنا سد الذرائع، خوفا من أن يفضي ذلك إلى الغلو فيمن يتبرك به من الصالحين.
يقول الشاطبي رحمه الله في بيان هذه العلة:
(لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد، بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ بجهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس منه...).
("الاعتصام" للشاطبي(2/9)، وقد ذكر الشاطبي احتمال أن الصحابة تركوا التبرك فيما بينهم من باب سد الذرائع).
وقد يؤدي هذا التبرك بسبب الغلو والتعظيم إلى حـد الشرك( لقد حكى عن أصحاب الحلاج أنهم بالغوا في التبرك به، حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته، حتى ادعوا فيه الالهية، انظر "الاعتصام" للشاطبي (2/10))، فيكون ذريعة إليه، 
كما قال ابن رجب رحمه الله حينما تكلم عن المنع من هذا التبرك ونحوه:(وفي الجملة، فهذه الأشياء فتنة للمعظَّم والمعظَّم، لما يُخشى عليه من الغلو المدخل في البدعة، وربما يترقى إلى نوع من الشرك)( من كتاب "الحكم الجديرة بالإذاعة" لابن رجب (ص55)).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عند مناقشته من أجاز هذا التبرك: لو أذن فيه على وجه البركة، من غير اعتقاد ذاتي، فهو سبب يوقع في التعلق على غير الله، والشريعة جاءت بسد أبواب الشرك.
(من "فتاوى ورسائل ابن إبراهيم" (1/104) بتصرف، وانظر كتاب "فتح المجيد" (ص106)، ورسالة "الشرك ومظاهره" لمبارك بن محمد الميلي (ص93)، وكتاب "الدين الخالص" لمحمد صديق حسن (2/250)).
وكما أن هذا التبرك فتنة للمعظَّم، فقد يكون أيضا فتنة للمعظَّم نفسه، كما أشار إليه ابن رجب آنفا.
فإن فعل هذا التبرك مع غيره صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أن يفتنه، وتعجبه نفسه، فيورثه العجب والكبر والرياء(من كتاب "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" تأليف الشيخ سليمان ابن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب(ص154))، 
وتزكية النفس، وكل هذا من محرمات أفعال القلوب(من كتاب "هذه مفاهيمنا"(ص210)).إلى غير ذلك من المفاسد الأخرى المترتبة على هذا التبرك.
وأخيراً:
 لا يصح أن يحتج بإمكان حصول تلك المفاسد من الغلو وأنواع الشرك مع التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لمجيء النصوص الشرعية بجواز ذلك والأمر به في حقه صلى الله عليه وسلم خاصة(من كتاب "الكواشف الجلية عن معاني الواسطية" لعبد العزيز بن محمد السلمان (ص746))، 
مع العلم بوجوب عدم مصاحبة هذا التبرك مع الرسول صلى الله عليه وسلم شيء من الغلو أو الشرك.
وممن نص على منع قياس الصالحين على الرسول صلى الله عليه وسلم ـ فيما سبق ـ من العلماء المعاصرين: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى حيث قال :
تعليقا على رأي ابن حجر العسقلاني رحمه الله جواز التبرك بآثار الصالحين، قياسا على ما ورد في بعض الأحاديث من تبرك الصحابة بالرسول صلى الله عليه وسلم .
قال رحمه الله تعالى: التبرك بآثار الصالحين غير جائز، وإنما يجوز ذلك بالنبي صلى الله عيه وسلم خاصة، 
لما جعل الله في جسده وما ماسه من البركة، وأما غيره فلا يقاس عليه لوجهين:
أحدهما: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
الوجه الثاني: سد ذريعة الشرك، لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم، 
وعبادتهم من دون الله، فوجب المنع من ذلك(انظر "فتح الباري" (3/130 هـ (1)، 144 هـ (1)).
وهكذا تبين لنا عدم جواز قياس الصالحين على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعليه فلا يجوز التبرك بذوات الصالحين أو بآثارهم، فضلا عن غيرهم، وأن تعظيم الشيء والتبرك به لا يجوز إلا بدليل شرعي.
والله تعالى أعلم.
{منقول للفائدة من بعض كلام أهل العلم الفضلاء جزاهم الله عنا خير الجزاء}.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق